logo

قصة بعنوان ‘أنت نبضي أنت وطني‘ - بقلم : الكاتبة اسماء الياس من البعنة

موقع بانيت وصحيفة بانوراما
28-06-2025 15:32:59 اخر تحديث: 01-07-2025 04:33:37

كانت يد يارا ترتجف قليلًا وهي تُغلق سحاب حقيبة اليد. لم يكن فيها الكثير، فقط بعض الأشياء الضرورية، ولكن كل قطعة بداخلها كانت تحمل معها جزءًا من الشوق الذي طال انتظاره. في الخارج، كانت الشمس تميل للغروب،

اسماء الياس - صورة شخصية

تلقي بظلالها الطويلة على جدران الغرفة، تمامًا كظلال الغياب التي خيمت على قلبها لأشهر طوال.

همست لنفسها: أخيرًا، اليوم الذي طالما حلمتُ به.

مرّ شريط الذكريات أمام عينيها كفيلم سريع. تذكرت أول لقاء لها بسامر، تلك اللحظة التي شعرت فيها أن هناك شيئًا استثنائيًا يولد. لم يكن حديثًا صاخبًا أو كلمات متدفقة، بل كان صمتًا مفعمًا بالجمال، النظرات التي حكت ما عجز اللسان عن قوله. كانت لقاءاتهما دائمًا مفعمة بالأحاسيس الدافئة، بمجرد وجوده كانت تشعر وكأن الحياة تزداد إشراقًا.

تنهدت بعمق، مسترجعة كلمات سامر على الهاتف قبل ساعات قليلة، تلك الكلمات التي اخترقت قلبها: "لو استطعت أن أفتح صدري لكنت وضعتكِ داخل القلب.

 جملة صغيرة لكن تحمل بين حروفها الكثير من المشاعر الحبيسة، التي لامست نبض قلبي، وأعادت لروحي حياة كنت قد افتقدتها في فترة غيابك عني.

ألقت يارا نظرة أخيرة على الغرفة، ثم حملت حقيبتها، ومضت نحو الباب. كل خطوة كانت تقربها من اللقاء المنتظر، من نبضها الذي عاد، ووطنها الذي سيحتضنها من جديد.

 خطواتها تسارعت مع كل نبضة قلب، وكأن الأرض نفسها تدفعها نحو مصيرها المنتظر. اختلطت أصوات المحيط بضجيج المطار الذي لا يتوقف.

إعلانات الرحلات، وضحكات المسافرين العائدين. لكن كل هذه الأصوات تلاشت لتصبح مجرد همهمة بعيدة، فكل حواسها كانت تركز على شيء واحد فقط: الوصول إلى بوابته.

عندما وصلت إلى منطقة الاستقبال، حبست أنفاسها. كانت عيناها تمسحان الوجوه المتلهفة، الأيادي التي تلوح، والدموع التي تذرف. ثم، وسط كل هذا الزحام البشري، شاهدته. كان يقف هناك، بنفس قامته المعهودة، وشعره الداكن الذي كانت تتوق للمسه ونظراته الهادئة التي تحمل كل الأمان في العالم.

 بتلك اللحظة كان لديها رغبة بأن تصرخ معلنة بذلك عن فرح كبير يعتمل داخل قلبها. صرخة تعلن عودة الروح إلى جسدها، لكن كتمتها. لأنها لم تكن وحدها. فقد كان حولها أشخاص كثر منهم من جاء مسافرًا ومنهم من جاء مودعًا، أشخاص من شتى أنحاء البلاد.

 ولأن الإحساس بالآخرين جزء لا يتجزأ من كوننا بشرًا. هذه الصرخة المكتومة تحولت إلى ابتسامة خفية ارتسمت على شفتيها، ووعد صامت بأن اللحظات القادمة ستحمل كل التعويض عن مرارة البعد.

توقفت يارا للحظة، وكأن الزمن قد تجمد حولها. رأت سامر يرفع رأسه، وعيناه تبحثان. ثم التقت نظراتهما. في تلك اللحظة، لم تعد هناك مسافات، ولا غياب، ولا صخب حولهما. العالم كله انحسر ليصبحا هما الاثنان فقط.

ابتسم سامر تلك الابتسامة التي تضيء قلبها، وبدأ يخطو نحوها بخطوات ثابتة. لم تستطع يارا التفكير، فقط انطلقت قدميها تركض إليه. في لحظة واحدة، تلاشت كل الحواجز، وكل الشوق، وكل مرارة الغياب. وجدت نفسها بين ذراعيه، تشد قبضتها على قميصه وكأنها تخشى أن يختفي مرة أخرى.

همس في أذنها بصوت خافت، مفعم بالعاطفة، كلمات لم تكن واضحة المعالم، لكنها كانت موسيقى لروحها. رفعت وجهها إليه، عيناها تملؤهما دموع الفرح الصامتة، فرأت عيناه تلمعان بنفس بريق الشوق الذي سكن قلبها. وفي تلك اللحظة، أدركت أن الوطن ليس أرضًا، بل هو شعور يغمرها بوجوده. وأن نبضها الذي توقف، قد عاد ليخفق بقوة لم تكن تتوقعه.

بعد أن هدأت أنفاسهما في ذلك الحضن الذي ضمّ سنين الشوق، ابتعد سامر قليلًا، لكن يداه بقيت قابضة على يدي يارا بإحكام، وكأنه يخشى أن تتبخر من بين يديه. كانت عيناه تتفحصان وجهها، كل تفصيل فيه، وكأنه يعوض كل لحظة غياب.

"اشتقتُ إليكِ يا يارا، أكثر مما تتخيلين." همس سامر، صوته متهدج قليلًا.

ابتسمت يارا، والدموع ما زالت تلمع في عينيها. وأنا أيضًا يا سامر. كأن النبض عاد لروحي بوجودك.

أخذ سامر نفسًا عميقًا، ثم قال وهو يمسح شعرها بلطف: الرحلة كانت طويلة، والمؤتمر... كان مرهقًا للروح يا يارا.

نظرت إليه يارا بتمعن، ترى في عينيه أثر التعب، لكن أيضًا بريق الإصرار. كيف كان؟ هل استطعت أن توصل رسالتك؟

تنهد سامر، وأبعد خصلة من شعرها عن وجهها. حاولتُ قدر الإمكان. المؤتمر كان يهدف إلى تسليط الضوء على الوضع الذي وصل إليه عالمنا من تشتت وحروب تحصد الكثير من الأرواح البريئة. تحدثنا عن الحاجة الماسة للسلام، للتفاهم، لإعادة بناء ما هدمته الأنانية والصراعات.

أومأت يارا برأسها، تتخيل حجم المسؤولية التي كانت على عاتقه. وهل وجدت آذانًا صاغية؟ هل هناك أمل؟

نظر إليها سامر بعمق، وابتسامة خافتة ارتسمت على شفتيه. الأمل دائمًا موجود يا يارا، طالما هناك قلوب تؤمن بالخير، وطالما هناك من يقاتل من أجل السلام. ولكن الأهم، أنني أدركتُ هناك، بعيدًا عنكِ، أن كل هذا الجهد، وكل هذا التعب، لا يكتمل إلا بالعودة إليكِ. أنتِ السلام الذي أبحث عنه، والوطن الذي أعود إليه.

شدت يارا على يده، وشعرت بدفء كلماته يغمرها. في تلك اللحظة، لم يعد العالم الخارجي بضغوطه وتحدياته يهمها كثيرًا. كان المهم هو هذا الرجل الذي أمامها، يحمل هموم العالم في قلبه، لكنه يجد في حبها ملاذًا ووطنًا.

كانت يارا تستمع إلى سامر باهتمام بالغ، كل كلمة عن المؤتمر وهموم العالم تجد فيها صدىً في قلبها. لقد كانت تعلم دائمًا مدى شغفه بالقضايا الإنسانية، وهذا ما جذبها إليه في البداية. في عينيه المتعبتين، رأت الإصرار والتفاني، وشعرت بفخر عميق تجاهه. كانت مشجعه الأول، تؤمن برسالته، وبقدرته على إحداث فرق، حتى لو كان صغيرًا في هذا العالم المضطرب. وعندما أكد لها أن كل جهوده لا تكتمل إلا بالعودة إليها، شعرت وكأن الكون كله قد انحاز لصفها.

بعد لحظات من الصمت المفعم بالكلمات غير المنطوقة، تبادلا نظرة عرفا معناها جيدًا. كانت أمنية واحدة تسيطر على قلبيهما: أن يكونا لوحدهما أخيرًا. بعيدًا عن ضجيج المطار، وعن هموم المؤتمر، وعن أعين المتطفلين.

عاد سامر ويارا سويا إلى البيت، لم يتحدثا كثيرًا في الطريق. كان الصمت هذه المرة مريحًا، مليئًا بالوعود والدفء. عند وصولهما، لم يُضيئا الأنوار الكثيرة. بدلاً من ذلك، اختارا أن يجلسا في الشرفة، حيث كان ضوء القمر الفضي ينساب بهدوء ليغمر المكان بسحر خاص.

جلسا متقاربين، يداهما متشابكتان، وكأن كل خلية في جسديهما تتشرب وجود الآخر بعد طول غياب. في ظل القمر، بدت الهموم تتلاشى شيئًا فشيئًا، وحل محلها شعور عميق بالسلام والسكينة. كان هذا هو الوطن الذي بحث عنه سامر في كل رحلاته، والنبض الذي أعاد الحياة ليارا في كل لحظة انتظار. لم يحتاجا للكثير من الكلام؛ فضوء القمر كان شاهدًا على حكايتهما، وعلى شفاء الروح الذي يحدث بوجود من نحب.

تحت ضوء القمر الفضي، الذي كان يرسم خيوطًا من النور على وجهيهما، بدأت أحاديث العشق تتدفق بين يارا وسامر. لم تكن مجرد كلمات، بل كانت همسات تخرج من أعماق الروح، تُزيل غبار الغياب وتُجدد عهد الحب.

كم عصف بي الشوق يا يارا. بدأ سامر بصوت خافت، وهو يمرر أصابعه برقة على ظهر يدها. كل يوم كنت أراه شهرًا، وكل ليلة كانت دهراً. حتى في أوج انشغالي بالمؤتمر، كانت صورتكِ لا تفارقني. كنتِ الشعلة التي تُضيء عتمة التعب، والأمل الذي يدفعني للاستمرار.

نظرت إليه يارا وعيناها تلمعان، كلمات سامر كانت مرآة لما شعرت به تمامًا. وأنا يا سامر، كنتُ أعد الدقائق والثواني. كنتُ أجدك في كل أغنية حزينة، وفي كل ذكرى جميلة. كان غيابك يُفقد الأشياء ألوانها، وكأن العالم أصبح أبيض وأسود. كنتُ أحاول أن أظهر قوية، لكن روحي كانت تذبل ببطء.

ابتسم سامر بحنان، وضم يدها بين كفيه. لهذا السبب، لم أستطع الانتظار. كانت العودة إليكِ هي الدافع الأكبر. أدركتُ أن كل نجاح، وكل إنجاز، يفقد معناه إذا لم أعد لأتقاسمه معكِ. أنتِ الوطن الذي يضم روحي، والنبض الذي يُحيي قلبي.

أومأت يارا برأسها، ودمعة صغيرة فرّت من عينها. وأنتَ يا سامر، أنتَ لستَ مجرد حبيب. أنتَ الأمان، أنتَ السند، أنتَ الملاذ الذي ألجأ إليه من قسوة الحياة. وجودك يجعل كل شيء ممكنًا، ويُنسيني مرارة أي غياب.

استمرا في الحديث لساعات، يتناوبان على سرد تفاصيل أيامهما، يشاطران الأحلام والآمال، وكأن الزمن لم يُبعدهما قط. كانت ليلة لا تُنسى، ليلة أعاد فيها القمر رسم خريطتهما العاطفية، وأكد أن الحب الحقيقي لا يعرف مسافات أو غيابًا كل كلمة كانت تُضاف إلى قصة عشقهما، وكل لمسة كانت تُعالج جروح الشوق.

استمرا في الحديث تحت ضوء القمر، كانت كل كلمة تُقال وكأنها تُعلي بناءً شامخًا من الحب والوعود. وفي لحظة بدا فيها الكون كله يتوقف للاستماع، نظر سامر في عيني يارا بعمق، وعيناه تعكسان صدق قلبه.

يا يارا، أعدكِ. قال بصوت خافت ولكنه ثابت، أن يبقى هذا الحب سندًا لي ولكِ، ملاذًا من قسوة الأيام. أنتِ بالنسبة لي لستِ مجرد حبيبة، أنتِ الوطن الذي أعود إليه بعد كل رحلة، والقلب الحنون الذي يضم روحي المتعبة. لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدونكِ، فأنتِ نبضي الذي يُحييني.

كانت كلمات سامر بمثابة الميثاق، ختمًا على كل ما مرّ بهما من شوق وغياب. أغمضت يارا عينيها للحظة، مستوعبة عمق هذا الوعد الذي أعطاها الأمان المطلق. فتحتهما لتنظر إليه، وكل ذرة حب في كيانها كانت تقول: "وأنتَ نبضي، أنتَ وطني.

ومن تلك الليلة القمرية، التي شهدت تجدد العهد وتأكيد المشاعر، انطلقت حياة يارا وسامر الجديدة. توّجا قصة حبهما بالزواج، ليصبحا جسدًا واحدًا وروحًا واحدة. لم تعد المسافات تفرق بينهما، ولا الغياب ينغص عليهما. عاشا بسعادة، يستمدان القوة من حبهما العميق، ومن وعد سامر الذي تحقق: أن تبقى يارا بالنسبة له، هي الوطن والقلب الحنون.

أهدي هذه القصة لمن حرك في مشاعر الحب. ولمن اعطاني فرصة بأن أكون عاشقة. إلى حبيب الروح..

اهداء من يارا إلى سامر..