هل وقف إطلاق النار في الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة استراحة محارب؟
27-06-2025 07:49:48
اخر تحديث: 27-06-2025 11:55:00
رافقت البشريّة منذ فجر التاريخ وما زالت.. إنها الحروب التي تعتبر، إحدى مظاهر سيادة الدول، لها قسوتها ونتائجها الكبيرة والمأساويّة. وكما أثبتت الحروب الأخيرة في المنطقة، بما فيها حرب الخليج الأولى والثانية عامّة، والحرب المستمرّة في غزة

وتلك في إيران التي انتهت "فجأة" وبتغريدة ترامبيّة واحدة، وتلك الحرب التي انتهت في لبنان عام 2006 وقبل أشهر بوقف لإطلاق النار في تشرين الثاني عام 2024، وربما بسبب ذلك، ما زالت تشغل المحلّلين والباحثين في محاولة لفهم أسبابها ومنطلقاتها. ولكنّ الأهمّ من ذلك هو محاولة فهم ديناميكيّتها، وفهم التطوّرات التي تؤدّي في كثير من الأحيان إلى تغيير المواقف منها إلى الأفضل، أو الأسوأ، أي نحو التهدئة، أو مزيد من التصعيد، وهي محاولة معقّدة تبدو معالمها واضحة وجليّة في الحرب الأخيرة مع إيران وقبلها في الحرب على غزة والتي أعقبت السابع من أكتوبر عام 2023 وهجماته ونتائجها وفظائعها. وهي تطوّرات كان الفيلسوف والقائد السياسي اليونانيّ الأثينيّ، بيريكليس قد أجاد وصفها في القرن الخامس قبل الميلاد، وخلال الحرب بين أثينا وإسبارطة، بقوله انه يدرك "أن مواقف ومشاعر الناس (بمن فيهم القادة)، حين ينجرّون إلى الحرب أو تستهويهم الحرب، ليست نفسها التي تتملكهم خلال الحرب، بل إن هذه المواقف تتغيّر وفق الظروف والمجريات". وهو ما يفسّر ربما قرارات بعض الدول والقيادات وقف الحرب بسرعة كما حدث في المواجهة، أو الصدام المسلح بين الهند والباكستان في نيسان إبريل 2025، والذي توقّف انطلاقًا من فهم سريع لقيادتي الدولتين النوويّتين، وبعد ساعات من نشوبها، أن وقف الحرب هو الحلّ الأمثل منعًا لدمار شامل وأعداد من الضحايا لا تحصى، أو قرارات بعض القيادات مواصلة الحرب رغم الدمار وأعداد القتلى والضحايا والجرحى، وصولًا ربما إلى إسكات كافّة الأصوات العاقلة والمتعقلّة والعقلانيّة، فيتذرع كلّ طرف من أطراف الحرب بأنه يريد أن يهزم عدوه وخصمه، وهو ما سمعناه من جهة إسرائيل منذ بدء الحرب مع إيران وحتى يوم الاثنين من هذا الأسبوع، وهو اليوم الذي قصفت فيه إسرائيل مكاتب حكوميّة إيرانيّة في إعلان صريح بأن الأهداف العسكريّة قد انتهت خاصّة بعد القصف الأمريكيّ للمنشآت النوويّة الإيرانيّة، وكان ملخّصه القول إنها حرب وجوديّة لن تنتهي إلا بانتهاء قدرة إيران النوويّة، وتغيير قياداتها وزوال إمكانيّة تهديدها لأمن وسلامة مواطني إسرائيل. وما سمعناه حتى ذلك اليوم من إيران من رفض للتفاوض، أو التنازل بل مزيد من التهديد والوعيد رغم اتضاح ميزان القوى وهو ليس لصالحها، لكنه وهنا نعود إلى السطر الأول من هذا المقال، رفض سببه اعتبار القيادة الإيرانيّة مواصلة الحرب الحاليّة، تأكيدا للسيادة ووقفها مسّ خطير بها خاصّة وأنها سيادة سياسيّة تستند بالأساس إلى منطلقات دينيّة تحمل رسالة دعويّة.
الحرب هي مظهر من مظاهر السيادة
التغيير في المواقف خلال الحرب وبسبب النتائج والظروف هو ما حدث في الحرب الحاليّة، والموقف الأمريكيّ منها، وقبلها واحد من الأدلة فأمريكا ترامب التي أعلنت عام 2018 انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران، هي نفسها التي قرّرت العودة عام 2025 إلى المفاوضات في محاولة للتوصّل إلى اتّفاق. وهي نفسها التي أعلنت أنها تؤمن بالحلّ السياسيّ، وهناك من يؤكّد أنها منعت هجومًا إسرائيليًّا كان مخطَّطًا له منتصف إبريل أي قبل نحو شهرين، مع التذكير أن ترامب كان قد منح المفاوضات مدة 60 يومًا، وهي نفسها التي أعربت عن استعدادها لمواصلة المفاوضات بوساطة تركيّة، لكنّ مجريات الأمور خلال الحرب كما يبدو، كانت سببًا في تغيير مواقف ترامب وتوجّهاته وبالتالي قصف المنشآت النوويّة الإيرانيّة، لأسباب عديدة منها إدراكه هو أيضًا الحقيقة المؤلمة أن الحرب هي مظهر من مظاهر السيادة، وبالتالي استهوته ممارسة وتطبيق هذا المظهر رغبة في تأكيد سيادة الولايات المتحدة وزعامتها للعالم وقدراتها التكنولوجيّة والعسكريّة المتفوّقة ورغبتها في حصد ميدالية إنهاء الخطر النوويّ الإيرانيّ، وهي غاية حاول ترامب تحقيقها عبر السياسة، أي قرار الانسحاب من الاتفاق وعبر المفاوضات ولم ينجح، وبالتالي بقي الخيار العسكريّ وهو الحرب المحدودة، أي الحرب التي تهدف إلى نتيجة سياسية تعتبر جزئيّة، أو أقلّ من تغيير النظام، وجعله يقبل سياسات معيّنة، عبر تدمير قوّاته العسكريّة أو احتلال جزء من أراضيه والسيطرة على أجوائه البريّة والبحريّة. وهو التغيير الأوّل لكن الأيام الأخيرة شهدت تغيّرًا إضافيًّا إذ قصف الطائرات الأمريكيّة المنشآت النوويّة الإيرانيّة، ما فسّره البعض على أن الولايات المتحدة لا تستبعد تحويلها إلى حرب غير محدودة تشمل أهدافها تغيير النظام في إيران واستبداله بنظام آخر، لا تبدو معالمه واضحة، ناهيك عن أنه تغيير يؤكّد أن أمريكا كغيرها من الدول لم تتعلّم الدرس من التاريخ، خاصّة من تحويل "حرب محدودة" كانت تهدف إلى نزع السلاح الكيماويّ العراقيّ الذي تباهى به صدام لخلق واقع من عدم اليقين لدى الخصوم، والذي اتّضح لاحقًا أنه لم يكن موجودًا إلا في تقارير استخباراتيّة زوّدت إسرائيل بها الولايات المتحدة والدول الحليفة، واعتبار إسقاط نظام صدام حسين واحدًا من أهدافها، واعتبار الديمقراطيّة هدفًا آخر، فتم إسقاط نظام صدام حسين ومحاكمته واعدامه، لكن الديمقراطية في واد والعراق في واد، ناهيك عن سيطرة "داعش"، ثمّ جاء الردّ الإيرانيّ المحدود على قواعد أمريكيّة في قطر، ليؤكّد أن القصف الأمريكيّ كان خطوة محسوبة هدفها إيصال كافّة الأطراف بسرعة، إلى اللحظة المواتية لوقف الحرب... بإعلان أمريكيّ طبعًا..
"السلام المدعوم بالقوّة"
إسرائيليًّا لا يختلف الأمر فالأهداف التي تمّ إعلانها في البداية كانت محدودة تهدف إلى منع امتلاك إيران قنبلة نوويّة، دون تغيير النظام، بل محاولة إضعافه وجعله عاجزًا، أو شبه عاجز سياسيًّا وتحديدًا عسكريًّا جرّاء تدمير كافّة منظومات ومقوّمات الدفاعات الجويّة الإيرانيّة، واغتيال قادة بارزين في الجيش، ما يستوجب التوقّف عنده بصفته يشكّل مثالًا لنشوة غير مفهومة إيرانيًّا نتيجتها قراءة خاطئة للوقائع أدّت إلى صياغة مواقف غير منطقيّة لبداية الحرب، كان الردّ عليها من قبل النظام الدينيّ الأصوليّ، المزيد من التعنّت والإصرار رغم إدراكه الحقيقيّ أنه الخاسر، أو تحديدًا شعبه الذي يئن تحت أعباء الحياة وانعدام الحريّات. وليس ذلك فقط بل خطوات معناها البحث عن المزيد من الأعداء والخصوم، وإبعاد أيّ محاولة أو رغبة من الأصدقاء لتقديم المساعدة، لكن ومع استمرار الحرب واستمرار القصف الإيراني لإسرائيل رغم الوضع العسكري على أرض الواقع، تغيرت المشاعر والمواقف إلى الأسوأ، أي إلى مزيد من التصعيد، ما حوّلها إلى حرب غير محدودة تعتبر كافّة الأهداف فيها شرعيّة بما فيها المرافق الحكوميّة والصناعيّة والسجون التي تأوي معارضي النظام، وصولًا إلى حالة أصبح تغيير النظام واغتيال رأس الهرم علي خامنئي واحدًا من الأهداف المعلنة، وفي نفس الوقت، وفي حالة يمكن اعتبارها تغيّرًا إيجابيًّا ربما يؤكّد الوصف الدقيق للسياسيّ بيريكليس (بيركليز) موقف أعلن عنه بهدوء مفاده استعداد إسرائيل لوقف إطلاق النار إذا طلبت القيادة الإيرانيّة ذلك، أو أعلنت استعدادها له، ما يؤكّد ربما إيمان إسرائيل أن الحرب قد استنفذت كافّة أهدافها والآن يتم الحديث عن أهداف رمزيّة، وربما بل يقينًا إدراك الخسائر الاقتصاديّة والبشريّة والبنيويّة التي منيت بها إسرائيل والتيقّن من أن استمرار حرب الصواريخ سيحوّلها إلى حرب استنزاف ربما تتحمّلها إيران ولكن ليس إسرائيل، أو الفهم أن الحرب ورغم القدرات العسكريّة الإسرائيليّة كلّها بعين الاعتبار، قد وصلت تلك النقطة من الذروة، التي يجب على أي قيادة سياسيّة واعية إدراك كونها نقطة اللا عودة، فإسرائيل التي بدأت حملتها ضد إيران بإنجازات عسكريّة واضحة وكبيرة واغتيال قيادات أمنيّة بارزة في طهران، سرعان ما حوَّلت هذا النجاح المبكر إلى نشوة خطيرة وشعارات سحريّة منها إبادة الخطر النوويّ والمشروع النوويّ كلّه، من باب إدراك نتنياهو، أو رغبته في تحقيق ثلاثة أهداف بضربة واحدة أولها إضعاف إيران ومنعها نهائيًّا من محاولة إحياء محور المقاومة، وبناء قدراته مُجدّدًا، وثانيها رغبته ترميم صورته وتخفيف وقع الضربة التي لحقت بإسرائيل يوم السابع من أكتوبر، وذلك بتسجيل إنجاز أكبر هو القضاء على البرنامج النوويّ الإيرانيّ، وثالثها تطبيق مبدأ "السلام المدعوم بالقوّة" أي الوصول إلى سلام في الشرق الأوسط من منطلق القوّة الإسرائيليّة، وليس الحقّ والمفاوضات، أو انتظار استسلام إيرانيّ قال عنه ترامب إنه استسلام يجب أن يكون مطلقًا وربما فوريًّا. وهي مواقف منعت إسرائيل طيلة أيام من الحديث عن وقف لإطلاق النار، أي عدم رؤية تلك النقطة التي عليها استغلالها لوقف الحرب منعًا لندم ساعة لا ينفع الندم، تمامًا كما تم استغلال هذه اللحظة خلال الحرب على الحدود الشماليّة والتوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار منع إسرائيليًّا تحويلها إلى حرب استنزاف يبقى معها الشمال الإسرائيليّ مهجورًا سكانيًّا ومتاحًا أمنيًّا ومشلولًا اقتصاديًّا وحياتيًّا، وجنوب لبنان وبيروت وخاصّة ضاحيّتها الجنوبيّة الحال ذاته، وتكلّل التغيير في الحرب الحاليّة بالموافقة على وقف إطلاق النار، ومعه الإعلان إن إسرائيل وإيران حقّقت كافّة أهدافها وانتصرت في الحرب..
إيرانيًا الأمر لا يختلف، فالحرب بدأت مع إسرائيل وحدها وكان الردّ الإيرانيّ بإطلاق الصواريخ التي أصابت في إسرائيل أهدافًا مدنيّة ومباني أخرى حكوميّة ومؤسّسات أكاديمية وغيرها، بمعنى أن إيران دخلت الحرب بمواقف تختلط فيها الأهداف العسكريّة والأهداف السياسيّة، بل تتناقض، فالعسكرية تريد الردّ على القصف الإسرائيليّ، وخوض الحرب دفاعًا عن السيادة والكرامة الوطنيّة للجمهوريّة الإسلاميّة ليس كدولة فقط، بل كمشروع دينيّ شيعيّ جهاديّ يريد نشر ولاية الفقيه، نجح عمليًّا في السيطرة على أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وصنعاء وبغداد، وما يرافق ذلك من مشاعر دينيّة خاصّة لدى الذين يعتبرونه نظامًا يريد الدفاع عن الفلسطينيّين أو المسجد الأقصى، متجاهلين ومعهم النظام التفوّق العسكريّ الأمريكيّ والإسرائيليّ، وانعدام الدعم السياسيّ العالميّ لطهران والذي إن وُجد، لا يتعدّى التصريحات السياسيّة المنادية بوقف إطلاق النار، وقرن ذلك بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وضرورة عدم امتلاك إيران أسلحة نوويّة، لكن تزامن الحرب مع وقف للمفاوضات مع واشنطن، رغم الحديث عن جولة مفاوضات سادسة، كانت خطوة اعتبرتها القيادة الإيرانيّة مسًّا بالكرامة الوطنيّة والسيادة وتغريرًا أمريكيًّا واضحًا، كان الردّ عليه المزيد من التصعيد، واشتراط لأيّ مفاوضات لوقف إطلاق النار بوقف الغارات الإسرائيليّة، مع توجيه التهديد ذاته للولايات المتحدة والدول العربيّة والخليجيّة المجاورة، ومنها قطر التي تربطها بطهران علاقات خاصّة ومميّزة وتنسيق يتعلّق بحركة "حماس" وغيره من الأمور، بمعنى تغيير مواقفها نحو التصعيد، ونقلها من ضمان سيادتها الوطنيّة والدفاع عنها. وهو ما لم تتمكّن من فعله، إلى اعتبار المسّ بالأنظمة المجاورة وربما مصالح الدول الأوروبيّة والأمريكيّة هدفًا شرعيًّا للحرب وصولا إلى الحالة اليوم التي تقف طهران فيها وحيدة أمام أمريكا وإسرائيل، متمسكة بفكرها المتزمّت الذي يعتبر البقاء السياسيّ وبقاء القيادة الدينيّة الأمر الأكبر أهميّة.
إضافة الى ما سبق، فإن ما حدث في إيران هو الدليل القاطع على خطورة الحالة التي يسميها المحلّلون "عدم اليقين" أو عدم الوضوح وربما التضليل والتهويل، بعكس اليقين الذي يضمن ربما عدم تحول المنافسة، أو الخلاف إلى صراع طويل المدى، وأقصد هنا صحّة التقييمات المتعلّقة بأسلحة الخصم وجنوده وقوّة القيادة لديه، وكلّها عوامل تشير مسبقًا إلى هويّة من سيفوز في القتال، كما كان الحال في حربي الخليج وحرب غزة الحاليّة وسنعود إليها، لكن النظام في إيران تعمد حالة عدم اليقين، وحاول جعل الخداع جزءًا من المعادلة، في تكرار لحالة العراق في حربي الخليج وموقف "حماس" من إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، إذ تعمّدت الأطراف الضعيفة هنا (العراق وإيران وحركة "حماس") إصدار تقييمات مبالغ فيها لقوّتها، في محاولة لردع الطرف الآخر عبر جعله ربما يعيد حساباته المتعلّقة بالربح والخسارة، متناسية أن عليها هي أولًا أن توازن بين حسابات واعتبارات الربح والخسارة، أي بين الإنجازات التي يمكنها تحقيقها وبين المخاطر الناجمة عن محاولة تحقيق تلك الإنجازات، وخير مثال على ذلك عدم إنكار صدام حسين امتلاك بلاده أسلحة بيولوجيّة حتى قبل أيام من الحرب، وإصرار طهران على المناداة بإبادة إسرائيل والموت لأمريكا، لتتغيّر الأمور بعد القصف الأمريكيّ الذي أكد لطهران أمرين أوّلهما أنها وحيدة، وأن أحدًا لن يساعدها، وثانيها إدراك القيادة الإيرانيّة أن ميزان القوى ضدّها خاصّة بعد دخول الولايات المتحدة المواجهة العسكريّة، وإعلان واشنطن أن تغيير النظام هو هدف للحرب، ثمّ الردّ الإيرانيّ المحدود والمتفق عليه، بمهاجمة صاروخيّة لقواعد أمريكيّة، وصولًا إلى قناعة لدى القيادة الإيرانيّة أنها الذروة المناسبة لوقف الحرب بحيث يمكنها الادعاء أنها حاربت أمريكا وإسرائيل معًا وحقّقت النصر وفق مفهومها.
حالة فاقت فيها عوامل الخسارة عوامل الربح أضعافًا مضاعفة
قرار حركة "حماس" تنفيذ هجمات السابع من أكتوبر 2023، دون حساب المكاسب والخسائر وصور الدمار في غزة وعشرات آلاف الضحايا، وعدم وجود أفق لأنهاء الحرب، هو مثال حيّ لأخطار عدم اليقين والمبالغة المقصودة والغوغائيّة في تقدير القوّة الذاتيّة، فالحرب المتواصلة في غزة دخلتها حركة "حماس"، بل بادرت إليها بمشاعر ملخّصها أنه الوقت المناسب لتحقيق إنجازات سياسيّة وعسكريّة داخليّة تهدف إلى إبقاء قطاع غزة تحت سيطرتها إلى أبد الدهر، خاصّة مع تزايد الحديث عن تطبيع إسرائيليّ سعوديّ اشترطته الرياض بقيام دولة فلسطينيّة مستقلّة تحت سيطرة السلطة الفلسطينيّة، واحتمال إيجاد قيادة فلسطينيّة خارجيّة بدعم خليجيّ وأمريكي وإسرائيليّ، ودخلها الفلسطينيّون بنشوة معلّلين ذلك بأنها المرة الأولى منذ العام 1948 التي تتمكّن فيها قوّات مسلّحة فلسطينيّة، أو عربيّة من دخول الأراضي الإسرائيليّة واقتحام المستوطنات، رافقها توقّع فلسطينيّ ساذج لردّ من إيران و"حزب الله" على الردّ العسكريّ الإسرائيليّ ومراهنة كارثيّة على أن العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة ستكون كما سابقاتها محدودة زمنيًّا وعسكريًّا، وأن دول العالم ستسارع إلى جهود الوساطة بقبول إسرائيليّ، وسط تصرّف حمساويّ يشبه تصرّف إيران، من تضخيم للقوة العسكريّة للحركة وإمكانيّة صمودها من جهة وعدم تقدير صحيح لقدرات وقرارات إسرائيل العسكريّة والسياسيّة وخاصّة وحدة الصف الإسرائيليّة شبه المطلقة. وهي نشوة سرعان ما تلاشت على ضوء مجريات الحرب ووقوف معظم دول العالم إلى جانب إسرائيل وخاصّة الولايات المتحدة، لتتغير المواقف على الصعيد الشعبيّ أوّلًا جرّاء مظاهر الدمار التي تسود القطاع، وانعدام مقوّمات الحياة والعيش ونقص الغذاء وأعداد القتلى ومجمل المواقف العربيّة والعالميّة، وصولًا إلى يومنا الحالي الذي يتمنّى الشعب في غزة الهدوء ووقف الحرب مقابل إعادة الرهائن الإسرائيليّين، وبالمقابل تعنّت قياداتيّ حمساويّ، يرفض رؤية الواقع ويصرّ على مواصلة اللعبة متمسّكًا بأوراق فقدت قيمتها، وحالة فاقت فيها عوامل الخسارة عوامل الربح أضعافًا مضاعفة، لكنّ القيادات في "حماس" وبعكس حليفتها طهران لم تفهم أنها وصلت تلك النقطة في الحرب منذ أشهر طويلة.
وهو الحال إسرائيليًّا فأهداف الحرب في غزة تغيرّت وتبدّلت وأصبحت أكثر قربًا إلى نهايتها والإصرار على مواصلتها بكل ما يعنيه ذلك من ثمن، لتشمل هذه الأهداف غير القابلة للتحقيق، القضاء على "حماس" عسكريًّا، ومنعها من المشاركة في إدارة الحياة اليوميّة للمواطنين خلال الحرب، ومنعها من أيّ دور بعد الحرب دون إيجاد بديل، وحتى دون التفكير في ذلك من باب عدم الرغبة السياسيّة في زعزعة الائتلاف، ما يسمح بتحميل هذه الحرب أكثر ممّا تحتمله من أهداف وصولًا إلى ترحيل الفلسطينيّين من غزة وإعادة الاستيطان هناك، وإنهاء عهد السلطة الفلسطينيّة وتجفيفها، وربما الاستيطان في جنوب لبنان وغيره، ما يعني المزيج من النشوة العسكريّة جرّاء الإنجازات على الأرض، وتطلّعات توسعيّة لنشر الدولة اليهوديّة التوراتيّة، دون استغلال الحقيقة الواقعة أن الحرب في غزة وصلت وباعتراف إسرائيليّين كُثْر، وصلت منذ مدة تلك النقطة التي كان على الحكومة استغلالها لوقفها عبر صفقة تشمل وقف إطلاق النار واستعادة كافة الرهائن، ما ينذر بحرب استنزاف طويلة.
خلاصة القول، هل يعني كلّ ما سبق عودة إلى ما تمّت تسميته "فخ ثيوسيديدس" كما وصفه عالم السياسة الأمريكيّ غراهام تي أليسون، الذي استعار الفكرة من المؤرّخ والجنرال العسكريّ الأثينيّ القديم "ثيوسيديدس"، لوصف الجنوح نحو الحرب عندما تهدّد قوّة صاعدة قوّة عظمى إقليميًّا أو دوليًّا، أو لمنع نشوء وترسيخ تلك القوة الجديدة، أي ربما قيام بعض الدول بمحاربة دول أخرى لمنع ريادتها وقيادتها عسكريًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا. وهل كانت الحروب الأخيرة تهدف إلى ذلك خاصّة في أوكرانيا وإيران وغزة حيث القول هناك أن "حماس" نفّذت هجماتها بدعم من قوى ودول في المنطقة لمنع صدارة وريادة دول عربيّة معيّنة؟؟ وإذا كان الأمر صحيحًا فأين القيادات من ذلك، وهل تدرك مخاطر الأمر وتنجح بعكس روسيا وأوكرانيا وإيران و"حماس" وحزب الله" وربما إسرائيل في عدم الانجرار إلى الحرب سياسيّة كانت أم عسكريّة أم اقتصاديّة، كما فعلت القيادة الصينيّة في الحرب الاقتصاديّة التي شنّها عليها الرئيس ترامب، والتي لم تكن اقتصاديّة فقط من حيث المنطلقات، بل هدفت إلى منع الصين من استغلال سيطرتها وقوتها الاقتصاديّة لتحقيق مكاسب سياسيّة وربما عسكريّة في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبيّة، عبر سياسة حكيمة اتّجهت فيها الصين إلى عدم معاداة الولايات المتحدة بل التأكيد على أنها تولي علاقتها بالولايات المتحدة أولويّة قصوى والردّ عليها بنفس الوسائل الاقتصاديّة جنبًا إلى جنب مع تأكيد رغبتها في تعدّي هذا التوتّر، والإشارة إلى أن الصين لديها الثقة التامّة بقدراتها وموقعها دون تضخيم وتهويل، مفضّلة سياسة الحوار وعدم الاستعداء وعدم البحث عن مزيد من الأعداء، وسط إدراك تامّ وواعٍ لميزان القوى وخاصّة ميزان الربح والخسارة.
ختامًا، توقّفت الحرب بين إيران وإسرائيل، والقرار أمريكيّ، وفور ذلك توالت التصريحات المتبادلة من الطرفين حول تحقيق النصر المبين، فهل يعني ذلك أن وقف إطلاق النار سيدوم؟ أم أن الحديث المتبادل عن الانتصار هو محاولة لتخفيف الألم وإخفاء الفشل كونه "نصف انتصار يبقي كلا الطرفين بمثابة الأسد الجريح"؟ أم محاولة لإرضاء الأتباع وهو حديث قد يضطرّ أصحابه الى تبريره وعندها تبدأ المشاكل، عملًا بقول وينستون تشرتشل: "مشاكل النصر ألطف من مشاكل الهزيمة، و لكنّها ليست أسهل في أيّ شيء"... أم أن أطراف الحرب الحاليّة وربما تلك التي في غزة ستدرك بعد اليوم أهميّة السلام والهدوء والوفاق وكونه الانتصار الحقيقيّ للجميع، عملًا بالمقولة الفرنسية الشهيرة: "الشجاعة تصنع المنتصرين، والوفاق يصنع الذين لا يُهَزمون" مع التأكيد على أن المنتصر الحقيقيّ في هذه الحرب هو من كان التغيير الناجم عن وقائع الحرب لصالحه، فهل هو إسرائيل التي ربما سيسمح لها العالم اليوم، أو تصر هي على مواصلة الحرب في غزة؟ أم ستكون رمية من غير رامٍ تؤدّي إلى صفقة شاملة تشمل وقف الحرب في غزة وإطلاق سراح الرهائن؟. وهذا أيضًا موضع خلاف باختلاف المنطلقات والولاءات، وربما يدعونا ذلك إلى مزيد من الحذر وعدم التسرّع في التنبّؤ بما ستؤول إليه عجلة الأيام، والسؤال الهامّ هل ما أعلنه الرئيس الأمريكيّ عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران صباح يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من حزيران 2025 هو نهاية للحرب، أم أن الحرب ستستمر بالسلاح "التقنيّ" أي "السايبر " وبالخبراء "للذرّة" المزروعين في الأراضي الإيرانيّة لمنعها من الوصول إلى سلاح نوويّ؟؟ أو أنها استراحة محارب؟؟
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il
من هنا وهناك
-
رأي في اللغة 6 : بين الصدر والأصْدَرَين | بقلم: د. أيمن فضل عودة
-
‘عندما تتعثر الكلمات: تأثير حالات الطوارئ على التأتأة في مرحلة الطفولة المبكرة‘ - بقلم: أفنان بكرية
-
المحامي علي أحمد حيدر يكتب: في ظلّ الحرب الشرسة والعنصرية المتجذرة
-
حروب ضد كوكب الأرض | بقلم: رون ليفشتاين - زاڤيت
-
مقال بعنوان ‘ضد المرأة‘ - بقلم : وفاء نصر شهاب الدين
-
‘بين حربين: هل تفتح الحرب الإسرائيلية الإيرانية نافذة للحل الفلسطيني؟‘ - بقلم: علاء كنعان
-
مقال: الناصرة تختنق… والناس تنتظر موقفًا وتحركًا مسؤولًا من البلدية - بقلم : منير قبطي
-
‘أن تكون مثقفًا يعني أن تشجّع غيرك وتدعمه‘ - بقلم: رانية مرجية
-
مقال بعنوان : ‘حتى نلتقي – حرب ‘ - بقلم : يوسف أبو جعفر
-
المحامي زكي كمال يكتب: بحثًا عن النصر المطلق في طهران
أرسل خبرا