‘من العربية إلى العبرية… دون أن يخون النص: رحلة مفلح طبعوني مع نبيل طنوس‘ - بقلم: رانية مرجية
1. مدخل: الترجمة الشعرية كفعل ثقافي ووجداني الترجمة الشعرية ليست عملية تقنية باردة، بل هي إعادة ولادة للنص في بيئة لغوية وثقافية أخرى.
صورة شخصية
إنها العبور الحذر بين لغتين، حيث لا يُسمح بفقدان نبضة واحدة من قلب القصيدة. ومن هنا، فإن نجاح المترجم لا يقاس بعدد الكلمات التي ينقلها بدقة، بل بقدرته على نقل الروح، والحفاظ على الإيقاع العاطفي، والصور الشعرية، والحمولة الثقافية التي قد تضيع إذا أُهملت التفاصيل الدقيقة.
في السياق الفلسطيني، تتجاوز الترجمة الشعرية البعد الجمالي لتصبح فعلاً مقاومًا، إذ تتيح للنص العربي أن يصل إلى القارئ العبري محمّلاً بذاكرة المكان ووجع التاريخ، دون أن يتعرض للتشويه أو الترويض اللغوي.
2. الشاعر مفلح طبعوني: صوت الأرض والجرح
مفلح طبعوني شاعر فلسطيني يكتب من قلب التجربة الفلسطينية، حيث تمتزج لغة الأرض برائحة التراب، ولغة الذاكرة بندوب المنفى والاحتلال. نصوصه تقف على تخوم الحلم والجرح، وتتنفس عبر استعارات كثيفة ومجازات صادمة، لكنها في العمق تحافظ على صدق التجربة وحرارتها الأولى.
في ثلاثيته الشعرية "ثلاث صبرات في المنطقة العازلة"، يقدّم طبعوني نصوصًا مشبعة بالتوتر الشعري، حيث تتجاور صور الألم مع لحظات الرهافة، وينبثق من القسوة ومضة أمل أو ندى.
3. نبيل طنوس: المترجم كحارس للنص
الدكتور نبيل طنوس ليس مجرد ناقل لغوي، بل حارس للنصوص، ومؤتمن على رسالتها. فلسفته في الترجمة تقوم على مبدأ: "لا أترجم الجمل… أترجم الأرواح."
إنه ينقل النص العربي إلى العبرية كما يُنقل طفل من رحم أمه إلى عالم جديد دون أن يُقطع الحبل السري للهوية. لا يتنازل عن الرموز، ولا يكيّف المعاني بما يرضي القارئ الجديد، بل يفتح أمامه نافذة يرى من خلالها النص الأصلي كما هو: بألمه، بجماله، وبتاريخه.
4. قراءة تحليلية للثلاثية وترجمتها
أ. صبْرة الأسى
هذه القصيدة تغوص في الألم حتى الأعماق. صور مثل "الموقد الذي ينقلب على نفسه" و*"بوصلة الأثداء النازفة"* تحمل شحنة رمزية قوية، تختزل الجوع، والفقد، والموت.
ترجمة طنوس حافظت على الإيقاع الداخلي للنص، وعلى ثقل الصورة، دون أن تلجأ إلى تلطيفها أو تبسيطها. هنا تتجلى الأمانة الإبداعية، إذ أبقى الترجمة على نفس الغموض الشعوري، مما يسمح للقارئ العبري أن يختبر النص ككتلة وجدانية متماسكة.
ب. صبْرة التروّي
قصيدة الصبر المتمرد، حيث الصمت ليس استسلامًا بل موقفًا وجوديًا. في النص العربي، تتناثر الاستعارات بين رائحة المدافن واعتذار القبور من كثرة الجثث، إلى ثوب عتيق ورغيف غائب.
الترجمة جاءت بوفاء للصورة، بلغة عبرية تحافظ على الإيقاع البطيء، وعلى التوتر بين الحضور والغياب، وهو عنصر أساسي في بنية النص الأصلي.
ج. صبْرة الندى
هنا نلتقي التناقض الجميل بين الصلابة (الصبْرة) ورقة الندى. النص العربي يحمل مفارقات لغوية وصورية دقيقة، من "اعتقال الربيع عند الحاجز" إلى "الحجارة مكنت السلاسل من التماسك".
طنوس في ترجمته لم يحاول فك الرموز للقارئ، بل تركها كما هي، مدركًا أن جزءًا من قوة الشعر يكمن في الغموض الذي يدعو للتأمل.
5. البعد الثقافي والسياسي للترجمة العربية-العبرية
في السياق الفلسطيني، نقل النصوص من العربية إلى العبرية ليس عملاً محايدًا. إنه اختراق لغوي-ثقافي، وفرصة نادرة لأن يصل الصوت الفلسطيني إلى المتلقي الإسرائيلي دون وسيط أيديولوجي.
ترجمة طنوس تُمثل نموذجًا لهذا الاختراق، إذ يقدّم النصوص كما هي، لا كما قد يرغب المتلقي في سماعها. بهذا، تصبح الترجمة مقاومة سردية، ترفض التنميط، وتصر على تقديم فلسطين بكل تفاصيلها المعقّدة.
6. خاتمة: تحية للشاعر والمترجم
في زمن تتسارع فيه الإيقاعات وتُختزل القصائد إلى مقاطع عابرة، تأتي ثلاثية مفلح طبعوني وترجمة نبيل طنوس لتذكرنا بأن الشعر لا يزال قادرًا على عبور الجسور دون أن يفقد قلبه.
هذه النصوص، في لغتها الأصلية وفي ترجمتها، تبرهن أن الجمال حين يُصان بصدق، يمكن أن يظل حيًا في أكثر من لغة.
النصوص الشعرية بالعربية والعبرية
صبْرة الأسى
النص العربي:
حينما يسقطُ الكلامُ في الموقدِ
يصمتُ ويتكلمُ الرمادُ
وانفعلَ من اللهبِ
من عناقِها البكرِ
يتقلصُ المدى في الرياحِ الداميةِ
تتكاثرُ أيامُ الذكرى الحزينةِ
ينقلبُ الموقدُ على نفسهِ
ويغرقُ في الذاكرةِ
أهذا عقابُ الجائعينَ
أم بوصلةُ الأثداءِ النازفةِ؟
مَنْ ذا الذي؟!!
دفنَ الموتَ بالموتِ
بدونِ كفنٍ
وتركَ القادمَ في الصحراءِ
الصحراءُ العامرةِ بغيابِ الجِمالِ
وتحرُّكِ الجبال
تتشابكُ الأحلامُ
في ليلي الطويلِ
ولا أفيقُ
يصلبني الأسى
في مياهِ نهرِ الأردنِّ
ويعودُ إلى تفتح الحقول من تحت الجسورِ
الترجمة العبرية:
כאשר מילים נופלות אל תוך תנור
הן משתתקות והאפר מדבר
ומתפעל מהלהבה
מחיבוקה הבתולי
המרחב מתכווץ ברוחות המדממות
ימי הזיכרון העצובים מתרבים
התנור מתהפך על עצמו
וטובע בזיכרון
האם זה עונש הרעבים
או מצפן השדיים המדממים?
מי הוא זה
שקבר מוות במוות
ללא תכריכים
והניח את הבא במדבר?
המדבר מלא חיים בהעדר גמלים
ובתזוזת הרים
החלומות שזורים
בלילי הארוך
ואיני מתעורר
הצער צולב אותי
במימי נהר הירדן
ושב מתחת לגשרים אל השדות הפורחים
صبْرة التروّي
النص العربي:
أشمُ رائحةَ المدافنِ
أنا لا أكرُّ ولا أفرُّ
لا أقبلُ ولا أدبرُ وأحط من عل
وُلِدتُ يومَ هروبِ رائحةِ الوردِ
وانسكابِ العطرِ على المرابعِ المنبتاتِ
سألوكَ قميصيَ الممزقَ بالدم
وأقتلُ العطشَ
وغيابَ طينِ الطحينِ
التنفسُ يتسربُ
إلى أوراقِ الشجرِ
لا شوقَ بعدَ هذا الحضورِ
إلا لثوبٍ عتيقٍ
ورغيفِ خبزٍ في السيئينَ
تعتذرُ المدافنُ من كثافةِ الجثثِ
تذرفُ الدمعَ على صلبانٍ مدفونةٍ
تهلكُها بقايا نقعِ الهديِ
ثلجُ الأوجاعِ المنصفةِ
في مشافي الانكساراتِ
تهوى الرموشُ الراجفةَ
تندسُّ فوقَ العيونِ المعزولةِ
فتتفتتِ المكائدُ
تحتَ لسانٍ يفوح
بينَ أكوامِ الفتاتِ
الترجمة العبرية:
אני מריח את ריח הקברים
אני לא שועט ולא בורח,
לא תוקף ולא נסוג, אך נוחת מגבהים
נולדתי ביום בריחת ריחות הוורדים
ושפיכת הבשמים על כרֵי הדשא הנִבָּטִים
שאלו ממך את חולצתי הקרועה וּסְפוּגָה דָּמִים
אני הורג צמא
והעדר טיט הקמח
הנשימה מחלחלת
אל עלי העצים
אין געגועים לאחר נוכחות זו
מלבד לבגד ישן
ולכיכר לחם בשני המַצָּבים הרעים
בתי קברות מתנצלים על צפיפות הגופות
מזילים דמעות על צלבים קבורים
שהורסים אותם שרידי השריית הרוגע
שלג הכאבים ההוגנים
בבתי החולים של השברים
הריסים הרועדים נושרים
הם מתגנבים מעל העיניים המבודדות
כך שהמזימות מתפוררות
תחת לשון נודפת ניחוחות
בין ערמות פירורים
صبْرة الندى
النص العربي:
تركتني أحرفُ القصائدِ
وعادتني لحظاتُ الخريفِ الناعمةِ
أعتقلوا الربيعَ عندَ الحاجزِ
لم أعدْ أتواصلُ مع الهروبِ
ألا يوجدْ في هذا الكونِ غيرُ الجمودِ؟
الوحشةُ تتراقصُ بينَ الأفاعي
وتتكالبُ الموبقاتُ
ينتشرُ بينَ المجهولِ
وينبثُّ بينَ النابضاتِ
الحجارةِ مكنتِ السلاسلَ من التماسكِ
في بريقِ الاهتزازاتِ
أم تذوب الأملاحَ؟
والطريقُ إلى الرجوعِ
يعودُ من قلبِ الرعودِ
وتحترقُ النجومُ
تحتَ الغيومِ
وفوقَ توابيتَ تلوبُ
الترجمة العبرية:
אותיות השירים נטשו אותי
רגעי הסתיו הרכים איבדו לי
הם עצרו את האביב
במחסום
אני כבר לא מתקשר עם בריחה
האם אין דבר ביקום הזה מלבד קיפאון?
הבדידות רוקדת בין נחשים
העוונות מציקים
מתפשטים בין הלא נודע
וצומחים בין הקפיצים
האבנים חיזקו את השרשראות
בניצנוץ של התננדות
או שמא המלח נמס?
והדרך חזרה
חוזרת מלב הרעמים
והכוכבים בוערים
מתחת לעננים
ומעל ארונות מתים הם מתרוצצים
صورة شخصية
صورة شخصية
من هنا وهناك
-
غسان عبد الله يكتب: غدا صرخة غضب من سخنين ضد حرب الإبادة والتجويع
-
‘ متاعٌ قليل ‘ - بقلم : الشيخ محمود وتد
-
مقال: هل دفعت الحكومة السورية ثمن موقفها السياسي في مفاوضات اذربيجان - بقلم : د. حسين الديك
-
‘ رأيٌ في اللُّغة . أموت ُوفي نفْسِي شيءٌ من (حَتَّى) ‘ - بقلم: أيمن فضل عودة
-
مقال: حين يتحدّث الحزبيّ الثوريّ عن الديمقراطيّة - بقلم: الشيخ صفوت فريج
-
الإستاذ والمربي جوزيف حلو من الناصرة : ‘تحية إجلال وتقدير للرفيق النقابي كمال أبو أحمد‘
-
‘ قصتان ووقفتان ‘ - بقلم : الشيخ عبد الله عياش
-
‘ التلقين الدّيني المبكّر: بين قدسية العقيدة وحقوق الطفل الفكرية ‘ - بقلم : أ. سامي قرّه
-
مقال: المحامي فريد جبران .. الإنسان المناسب في المكان المقدس‘ - بقلم: رانية مرجية
-
‘بدنا حقنا ، بدنا نعيش بكرامة ‘ - بقلم : عمر عقول من الناصرة
أرسل خبرا