مقال: حين يتحدّث الحزبيّ الثوريّ عن الديمقراطيّة - بقلم: الشيخ صفوت فريج
من أغرب ما يمكن أن تسمعه في السجالات السياسيّة المعاصرة، أن يعتلي من ناصر وأيّد الأنظمة القمعية منابر الدفاع عن "الديمقراطيّة وَ"حقوق الأقلّيّات". تغدو المبادئ أقنعة تُرتدى ضدّ الخصوم،
الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الإسلاميّة
وتُخلَع أمام الذات، ولا غرابة حينها أن نتساءل: هل تغيّرت القناعات؟ أم أنّ فقط الخطاب هو ما تغيّر لتوظيفه ضدّ خصوم الأمس، كأداة هجوميّة بعيدًا عن المبدأ والقناعات؟
هذا النوع من الخطابات لا يُثير الدهشة فقط، بل يدفعك للتفكُّر في طبيعة التلوُّن الأيديولوجي، والقدرة المذهلة على تبديل المبادئ وفق الموقع لا الموقف، ووفق المصلحة لا الحقيقة. كيف بمن استساغ الاستبداد بالأمس، أن يتزيّن اليوم بثوب الحريّة والعدالة والديمقراطيّة؟ كيف بمن لا يزال يحنّ إلى زمن "الرفيق القائد"، ويبرّر السجون الجماعيّة، ويترحّم على أيّام القمع باسم "الديكتاتوريّة الثوريّة"، هو ذاته اليوم يظهر بعباءة "المدافِع عن الحرّيات" حين يكون خصمه إسلاميًّا لا يدور في فلكه. "إذا لم تستحِ، فاصنع ما شئت!".
وحين يخوض في حقوق الأقلّيّات، تراه يتحدّث وكأنّ التاريخ بدأ من اليوم، وكأنّ ذاكرة الشعوب قد مُسِحَت وطواها النسيان، متناسيًا أو متغافلًا أنّه قد صفّق وبارك لأنظمةٍ سحقت وداست الأكثريّة بالدبّابات والمحاكمات الصوريّة، لا لذنبٍ سوى أنّها لم تؤمن "بالخط الثوري الصحيح"!.
لقد دعمت بعض الأحزاب في بلادنا أنظمة عسكريّة وأمنيّة حول العالم تعدُّ من الأشدّ بطشًا والأحلك سجلًّا في انتهاك حقوق الإنسان: من أوروبا الشرقيّة إلى الصين، ومن كوريا الشماليّة إلى العراق وسوريا. مع ذلك، حين نراها اليوم تقف معارضةً نظامٍ ما، فإنّها تفعل ذلك باسم "الديمقراطيّة"، لا نصرةً للكرامة، ولا وفاءً للحرّيّة، ولا سعيًا للعدالة، بل غالبًا لأنّها ليست هي من يحكم، ولا هي من يُمسِك بمقاليد السلطة وزمام الأمور.
"المتحزّب الثوريّ"
ليست المشكلة في أن يتحدّث هذا "المتحزّب الثوريّ" عن الديمقراطيّة، بل المشكلة في أنّ حديثه هذا غالبًا ما يكون أداةً، لا مبدأ. تكتيكًا ظرفيًّا، يُشهِره وفق الحاجة والمصلحة، ثمّ يُسقِطه متى تمكّن من السلطة، أو حين تلوح له فرصة تحالف مع قوى البطش والقمع والاستبداد. لهذا يبدو خطابه أجوف، فاقدًا للمصداقيّة، حتّى وهو يحمل شعارات لامعة برّاقة عن "حقوق الإنسان"، وهو أمهر من يصوغ الشعارات ويبرع في ترتيبها وتوظيفها. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
الديمقراطيّة ليست ورقة ضاغِطة تلوّح بها في كلّ سجالٍ أيديولوجي، وليست قناعًا تتقمّصه حين تخسر السلطة. إنّها التزامٌ أخلاقي، ووعيٌ تاريخي، واستعدادٌ دائم للاعتراف بالحق حتّى وإن خالف المزاج "الثوري"، أو جرح كبرياء الذاكرة الحزبيّة.
وإن أردنا فعلًا أن نبني مجتمعات حرّة، فلا بدّ أن نحرّر الديمقراطيّة من قبضة الانتهازيّين، أيًّا كانت أيديولوجيّاتهم وراياتهم. فالديمقراطيّة ليست حكرًا على أحد، بل تليق بكلّ من احترم الإنسان في كونه إنسانًا بالدرجة الأولى، في جميع أحواله، في ضعفه قبل قوّته، وفي أكثريّته كان أو أقلّيّته، وفي لحظة انتصاره كما في ساعة انكساره. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}, فحيث لا تُحترَم هذه الكرامة، يُفرَّغ العدل من معناه.
" جرائم نكراء "
مشاهِد البراميل المتفجّرة وهي تمزّق أجساد الأبرياء، وطقوس الإذلال بحلق الشوارب قسرًا، أو رمي الناس من فوق الأسطح، أو التفجيرات الّتي وقعت في الكنائس، كلّها جرائم نكراء، لا يبرّرها غضب ولا يطهّرها انتماء.
العدالة لا تُجزَّأ، والكرامة لا تُقاس بجنسيّة الضحيّة وانتمائه، ولا بلون رايته. والنفاق يكون حين نُدين الجريمة إذا ارتكبها الخصم، ونصمت عنها إن صدرت من "أبناء جلدتنا" أو من شركائنا في الهويّة أو العقيدة أو الفكر السياسي والأيديولوجي. من اختار طريق القتل والتعذيب والإذلال، فقد خرج من دائرة الإنسانيّة، سواء فعل ذلك باسم "الثورة" أو "الدولة" أو "المقاومة" أو "الخلافة". المبدأ الصلب لا يحني هامته أمام الرياح ولا العواصف، ومن كانت إنسانيّته حيّة، فلن تعميه الشعارات عن رؤية الدم، ولن يسكت عن الظلم ولو جاء من أقرب الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
من هنا وهناك
-
شرائع الرئيس ترامب: الدول خاضعة لفرمانات من البيت الأبيض !
-
‘ مشاهد تنهش الذّاكرة ‘ - بقلم: معين ابوعبيد
-
رأيٌ في اللغة .. يا شاعرَ النّيل، كم ذا ظُلمتَ!؟ - بقلم: د. أيمن فضل عودة
-
مقال: يحفظونه من أمر الله - بقلم : الشيخ عبد الله عياش
-
‘ميسون أسدي: غيابٌ لا يغيب‘ - بقلم: رانية مرجية
-
مقال: الشّيخ عبدالله نمر درويش: حكمة الدّعويّ وحنكة السّياسي - بقلم: الشيخ د. كامل ريان
-
مقال: من الفكرة إلى الجريمة: كيف يعيث المستوطنون فسادًا في الضفّة الغربيّة؟ بقلم : الشيخ صفوت فريج
-
يوسف أبو جعفر يكتب: حتى نلتقي .. ماذا بعد ؟
-
هل وقف إطلاق النار في الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة استراحة محارب؟
-
رأي في اللغة 6 : بين الصدر والأصْدَرَين | بقلم: د. أيمن فضل عودة
أرسل خبرا